القاهرة نائمة ، كل شئ في المدينة أغمض عينيه ، فوانيس الإضاءة بقيت وحدها ساهرة لاتغمض عيونها ، الشمس لاتزال تتثاءب في خدرها وراء السحب،وتتغطي بغطاء أسود فيه نقط بيضاء يسمونها النجوم ، أغصان الشجر تنثني عارية من الأوراق كأنها جوار عاريات يرقصن علي موسيقي النسيم ، رذاذ من الماء يتساقط من السماء كأنها دموع العاشقين تبكي لحظة وداع الليل حارس المحبين وحامي العشاق.
...................................
الساعة تقترب من الرابعة صباحاً.الساعة التي تموت فيها القاهرة كل ليلة،ثم بعد ذلك يلمس شفتيها أول شعاع من الشمس فتبعث إلي الحياة من جديد.
ودق جرس التليفون برنين متواصل مزعج وتآمر الليل والهدوء والظلام علي أن يجعل صوت الرنين يبدو مزعجاً كالصراخ ،
واستيقظ محمد علي صوت الرنين المخيف،ومد يده بتثاقل يتحسس آلة التليفون الموجوده فوق مائدة إلي جوار فراشه، وضلت يده في الظلام مكان التليفون فسقط علي الأرض .. وانفصلت عنه سماعة التليفون وسمع صوت رجل ملهوف يتكلم بنبرة ضائعة مخنوقه، ولم يفهم مايقول الصوت ، فقد كانت السماعة لاتزال ملقاه علي الأرض ، وأضاء محمد النور الكهربائي، والتقط سماعة التليفون التي كان ينبعث منها صوت يشبه الانين.
وضع محمد السماعة علي أذنه وسمع صوتاً يقول له بلا تحية ولا مقدمات..
لقد جاءت منذ قليل قوة من الشرطه وقاموا باعتقال والدي وأخذوه معهم إلي أمن الدولة..ولا أدري ماذا أفعل،فاتصلت لأخبرك.
كان هذا صوت كمال الصديق المقرب جداً من محمد حيث كانوا جنباً إلي جنب طوال حياتهم منذ أيام الصبا وحتي هذه اللحظه،تخرجوا معاً من نفس الكلية ، حتي كانوا سوياً في رحلة البحث عن عمل بعد حصولهم علي البكالوريوس بتقدير جيد جداً....
ولكن مافائدة الشهادات في بلد ليس فيه حريات ؟ علي رأي المثل اللي بيقول :
الناس خيبتها السبت والحد ... واحنا خيبتنا ماوردت علي حد !!!!
سأل محمد صديقه كمال عن السر وراء اعتقال أبيه. فقال له أن ذلك بسبب وقفة احتجاج سلمية قام بها والده وزملاؤه في المصنع الذي يعمل به ،للمطالبة بحقوقهم والإعتراض علي الإرتفاع الجنوني للأسعار ، ومطالبين بدستور يحفظ لكل مواطن حقه في أن يحيا حياة كريمة كإنسان،
مطالبين بحقهم في انتخاب من يمثلهم في مجلس الشعب بحيادية وشرف ......
ينادون بالحرية .. ينادون بالعدل .. ينادون بالمساواه ......
يهتفون بأعلي صوت : لا للظلم .. لا للإرهاب .. لا لتوريث الحكم ......
يهتفون بأعلي صوت : نعم لحرية الرأي .. نعم للقلم الحر .. نعم لأن يكون الشعب هو مصدر السلطات ......
استمع محمد إلي كلام صديقه كمال ولم يجد فيه سبب واحد مقنع لاعتقال أبيه بهذا الشكل ، ثم اتفقا معاً علي أن أن يتقابلا صباحاً والذهاب للإطمئنان علي عم حنفي عبد الكريم والد كمال ،
وهنا رمي كمال السماعة فوق آلة التليفون بعنف، بدون أن يحيي محمد أويشكره علي هذا الإهتمام ، ولكن محمد كان مقدراً تماماً الحالة التي يعيشها صديقه كمال في هذه اللحظه .
جلس محمد علي كرسي هزاز في منتصف غرفته يفكر بعمق شديد ، ويتحسر علي حال هذا البلد .
وكأن كل طاغية في العالم مصاب بنفس الداء ،يضيق حياة الناس ويوسع الشوارع التي يمشون فيها ،
يخرب البيوت ويعمر السجون ، يقطع ألسنة المعارضين بحجة نشر الهدوء والسكون ومنع الضوضاء،
الظلم في غزة في فلسطين هو نفس الظلم في القاهرة في مصر . مع أن فلسطين دولة محتلة ومصر من المفترض أنها بلد حرة مستقلة.فلسطين يحتلها الإسرائيليون ومصر يحتلها قلة من المصريين !!!!!!!!
دقت الساعة الثامنة صباحاً، هذا موعد لقائه بصديقه كمال للذهاب والإطمئنان علي والد كمال ، وبعد إجراءات واتصالات ومباحثات ومفاوضات و.........الخ الخ ، سمحوا لهما بالزيارة في السجن وعندما وصلوا إلي مكان اللقاء فإذا بعم حنفي في حالة من الإعياء والتعب الشديدين ، يكلمونه فلا يجيب ، يحدثونه وهو ملتزم حالة من الصمت الشديد كأنه لايراهم من الأساس ...
ظل عم حنفي علي تلك الحال حتي قام وبدأ بخلع ملابسه ، وهنا رأي محمد في ظهر والد صديقه كمال وعلي بطنه وساقيه خطوطاً سوداء وزرقاء وحمراء ، خطوطاً عديدة ومتشابكة ، بأطوال مختلفه وبعروض مختلفه .
هنا لم يقرأ محمد في هذه الخطوط قصة العذاب الهائل الذي تعرض له والد صديقه كمال ، وإنما قرأ تفسيراً لمواد الدستور الذي كان يجهله تماماً قبل هذا اليوم !!!
كان كل أثر لسوط علي جسم عم حنفي هو مادة من مواد هذا الدستور الذي قام الشعب وأجمع علي إلغاء بعض نصوصه ، وتعديل البعض الآخر !!!
هذا الجرح الكبير يقول أن الأمة هي مصدر السلطات .
هذا الجرح الذي ينزف يقول بأنه لايجوز أن يبقي برئ داخل السجون والمعتقلات .
هذا الخط الأزرق يقول بأن لاجريمة بغير قانون .
هذا الخط الأحمر يقول بأنه لايجوز محاكمة مدنيين في محاكم عسكرية .
كل مادة من مواد الدستور كانت مكتوبة علي جسد هذا الإنسان بآثار السياط . وإن ماحدث له قد يحدث لملايين غيره .. ملايين الأبرياء .. ملايين الناس الطيبين الذين يطالبون بسيادة الدستور والقانون .
وهنا خطر ببال محمد أن يسجل تلك المعاني التي استوحاها من آثار التعذيب والظلم في مقال......
فجلس وكتب .......
وإذا به دون أن يشعر يكتب خطاباً غرامياً ، خطاباً كله غزل وهوي مبرح ، وشوق جائع ، في معشوقة لم يعرفها من قبل ، أو أنه لم يفهمها من قبل ! يكتب لأول مرة في حياته خطاباً غرامياً بإمضائه هو ، إلي معشوقة يحبها حباً جارفاً أكثر من أي غرام أحس به أو سمع عنه طوال حياته .. إنها معشوقة يفتقدها كثيراً ولا يجدها ، يحتاج إليها وهو محروم منها ، يريد أن يضحي بحياته كلها ليستمتع بوجودها ،
ووجد محمد نفسه وهو يكتب كأنه اكتشف هذه المعشوقة لأول مرة ، وعرف اسمها ،
لقد سمع بهذا الاسم من قبل ، ولكن لم يكن يتصور أنها تعني كل ماعنته ، لم يكن يعتقد أنها بكل تلك الروعة وكل هذا الجمال .
من هي تلك المعشوقة ؟ وما اسمها ؟
وماذا قال في خطابه الغرامي لها ؟
هذا ماسوف نكتشفه في البوست القادم إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء.
دمتم بألف خير، وأطيب أمنياتي بالتوفيق لكل شاب . لكل فتاة . لكل رجل وكل امرأة . لكل إنسان . لكل مواطن شريف ..يسعي جاهداً لإيجاد تلك المعشوقة الغالية !!!
وآخر كلامي سلااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااام